top of page

محنة العراق بين المقاومة والإرهاب بعد الاحتلال الأمريكي 2003 طاهر البكاء


عاش العراقيون والعراق محنة كبيرة بعد الاحتلال الأمريكي غير الشرعي 2003، إذ من الطبيعي أن يتصدى العراقيون لقوات الاحتلال، لكن مقاومة العراقيين تداخلت مع موجة شرسة من قوى إرهابية تكفيرية وافدة من دول الجوار وأخرى بعيدة، كل لغايته وهدفه.

ابتداءً لابد من القول إن من الخطأ أن نضع المقاومة الوطنية المشروعة والإرهاب تحت عنوان واحد يجمع بينهما، لأن ما يفرق بينهما أشياء كثيرة وبعيدة جداً، "بُعدَ الحق عن الباطل"، وبُعدَ المشروع عن اللامشروع، بل بُعد الإحياء عن القتل، إلا أنني أردت بذلك أن ألفت الانتباه إلى حقيقة أن المقاومة اغتيلت مع الأسف على يد الإرهاب الأسود الذي قادته القاعدة وزعماء التكفير، فتداخلت الخنادق، واشتبكت على الناس الأمور، حتى أننا لا نستطيع أن نميز بين الإرهاب أو المقاومة إلا من خلال نوعية الهجوم، فالهجوم المصمم لقتل العراقيين جملة أو أفراداً عرفناه على إنه إرهابٌ، أما الهجمات التي استهدفت الاحتلال، فصنفت على أنها مقاومة، مع هذا ظل الخيط رفيعاً، والفرز بين الخنادق صعباً في ظل غزارة الدم العراقي المسفوح.

أدى حل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، واجتثاث البعث، وفتح الحدود على مصراعيها، وعدم تشكيل حكومة عراقية لملء الفراغ السياسي وفرض الأمن، وفشل الجيش الأمريكي في إدارة البلاد، لأنه أُعدَ أساساً للحرب وليس للإدارة، وتوصيف أمريكا لوجودها في العراق رسمياً كقوة احتلال، أدى كل ذلك إلى حالة من الغضب والنقمة على أمريكا وقواتها.

بدوافع وطنية مخلصة بدأت مقاومة وطنية صادقة هدفها تحرير البلاد، وهذا أمر يكفله القانون الدولي والشرائع السماوية. لم تكن المقاومة منظمة ومسيطراً عليها في بدايات انطلاقها، وهذا أمر طبيعي، لأن نظام صدام والبعث لم يكن قد هيأ البلاد لمثل هكذا حالة، بل إن المقاومة اتخذت شكل العمليات الفردية، قام بها عسكريون سابقون، ومنتسبو الأجهزة الأمنية، وبعثيون، فضلا عن مواطنين بسطاء، دفعهم إلى ذلك وطنية صادقة أو سوء تصرفات القوات الأجنبية، واعتداءاتها. وفي الوقت الذي ظهرت فيه مقاومة مسلحة ظهرت إلى جانبها مقاومة بالقلم واللسان، كان يمكن للمقاومة أن تنمو وتحقق نجاحات لولا اختطافها من القوى الإرهابية والتكفيرية.

أدى فتح الحدود إلى دخول آلاف من العرب والأجانب إلى العراق تحت شعار مقاومة المحتل، ولا ننكر هنا أن كثيراً منهم كانوا صادقين في نواياهم، إذ كانوا يرون أن العراق أصبح ساحة جهاد، لكن الأكثرية منهم كانوا ذوي أهداف سياسية ومذهبية، مدعومين أو منخدعين ومندفعين بتأثير فتاوى "علماء التكفير" في السعودية التي استثمرها الإرهابيون لإباحة دماء العراقيين قبل القوات الأجنبية. وتناسى علماء التكفير أن تلك القوات انطلقت من أراضيهم، وحصلت على كل أنواع الدعم اللوجستي والسياسي من حكوماتهم، فأفتوا بحلية قتل أبناء المذهب الأوسع انتشاراً في العراق، دون تمييز بين مواطن بسيط أو رجل سياسة، حتى غدت أغلب مدن وسط وجنوب العراق مسالخ يومية للرجال والنساء والأطفال. إنها كانت بحق "إبادة جماعية" (genocide) يومية.

دخل تنظيم القاعدة على خط المقاومة في العراق، واتخذ من المناطق الأكثر تضرراً من إجراءات الحاكم المدني الأمريكي قاعدة للعمل، ليس لأنها أكثر تضرراً فحسب، بل لأن الغالبية العظمى من أهلها الطيبين هم من مذهب لا يكفره تنظيم القاعدة، وأخطأ أبناء تلك المناطق عندما وضعوا ثقتهم بالقاعدة، ومنحوها القيادة الميدانية، فاستطاعت أن تنظم نفسها في تلك المناطق، واستمكنت حتى على أهالي المنطقة أنفسهم، وفرضت إرادتها العسكرية ورؤاها الدينية عليهم.

بدأ أفراد القاعدة ومَن انخرط معهم من أبناء تلك المناطق بشن هجمات على القوات الأمريكية والأحزاب والقوى السياسية الجديدة التي ظهرت على سطح الأحداث بعد 9 نيسان 2003. وكان من الممكن أن توصف تلك الهجمات بالمقاومة، ذلك لو أنها بقيت ضمن حدود مهاجمة القوات الأجنبية وأحزاب سياسية بعينها متعاونة مع قوى الاحتلال، إلا أن الجريمة الكبرى، التي هي بالأساس انعكاس لفكر القاعدة وعلماء التكفير، هي أن الهجمات شُنّت وبشكل مكثف ضد أبناء مذهب ديني بعينه، وأصبحت الجوامع والحسينيات والمناطق ذات الأغلبية السكانية للمذهب المستهدف – الذي يوصف وفق التصنيف الوهابي والقاعدة بأنه مذهبٌ غير إسلامي – أهدافاً يومية لانتحاريي القاعدة، حتى غدت بغداد ومدن وسط وجنوب العراق ساحات موت يومي راح ضحيته الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وهُجّر قسراً الكثيرون من السكان إلى مناطق أخرى في عملية فصل قسري على أسس طائفية.

كان السؤال المحيّر في حينها، لماذا فتحت القوات الأمريكية حدود العراق على مصراعيها لمن هب ودب؟ دخلوه دون تأشيرات أو جوازات حتى بلا بطاقة هوية أحياناً. لم تكن الإجابة على السؤال بسيطة في حينها ربما لحد الآن، إلا أن كثيرين من العراقيين كانوا يؤمنون أن الأمريكان لم يقوموا بذلك عن جهل أو قلة خبرة، وإنما عن تقصد وسبق إصرار، وذلك لأجل استقدام أعدائهم إلى (ساحة القتل)، فيتخلصون منهم دفعة واحدة، ولا يهمهم بذلك كم سيقتل من العراقيين، لأن استهداف أولئك القتلة من أعضاء القاعدة ليس ممكناً في بلدانهم، خاصة أن أنظمة بعض تلك البلدان تُعدّ من أصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وهي التي تحمي وتروج للفكر الضال التكفيري، وهو المذهب الرسمي لبعضها.

جرت الأمور نسبياً خارج الحسابات الأمريكية، فقد تورط الأمريكيون في رمال العراق، كما تورطوا من قبل في أحراش فيتنام، وخسروا الكثير من الأرواح والأموال، حتى وصفت ورطتهم في العراق بأنها فيتنام ثانية، مما أثر في سمعة الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً، وكان من أسباب الأزمة الاقتصادية الحادة.

إن القاعدة في جرائمها في العراق، ومعها الفصائل المسلحة الإرهابية الأخرى، يتحملون مسؤولية دماء عشرات الآلاف من العراقيين، وفي الوقت ذاته مسؤولية تشويه صورة المقاومة الوطنية العراقية المشروعة، تلك المقاومة التي يتكفلها القانون الدولي.

إن المسؤول الأول والأخير عن هذه الجرائم، سلطات الاحتلال، التي سهلت للقاعدة خطأ او عمداً التمركز بالعراق، وأن هذا ليس ادعاءً أو افتراءً عليها، بل هو ما تنص عليه القوانين الدولية التي تُحمّل سلطات الاحتلال مسؤولية حماية شؤون البلد المُحتل وإدارته.


Tahir Albakaa
Historian
bottom of page