top of page

ذا هو صديقي الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي كما عرفته

عن الكتاب..وعن مؤلفه

بقلم: طاهر البكاء


أمّا قبل، فذا هو صديقي الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي كما عرفته:


قبل أنْ ألتقيه، كانت سمعتُه الطيّبة تملأ الآفاق، إذ عرفهُ الناسُ "طبيباً لامعاً" في جراحة الجملة العصبية. تلك السمعة العطِرة قادتني إلى عيادته للنظر في حالة مرضيّةٍ كان يعاني منها أحدُ أفراد أسرتي، ففوجئت وأنا أهمّ بالدخول إلى عيادته باكتظاظ المراجعين لا من بغداد وحدها إنما من مختلف المحافظات.

وما إنْ دخلنا عليه، التقانا بوجه نضرٍ باسمٍ، مهللاً بكلمات ترحيبٍ، أزالت عنّا قلقنا على مريضنا فيما انشرح صدره هو الآخر لتزول أمارات مخاوفه عن محيّاه بعد أنْ لازمه شحوبُ الوجل وإحساسه بالتيْهِ في قِفار الظنون والأوهام!. ذلك الترحيب الجميل هو ما يفتقرُ إليه –مع الأسف- كثيرون من الأطباء في وطننا، لكنّي أذكرُ أنني قوبلتُ به من لدُنِ الأطباء في لندن سنة 1978، وفي الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2005 وما بعدها.

هذه هي أهم ما في "جبلّة" الطبيب، أو "الحكيم" كما كان يطلق عليه في العراق سابقاً، وفي لبنان، وسوريا، حتى الآن، وتلك هي سيماءُ الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي.

مرت السنون فاكتشفت أن الطبيب الحكيم قد امتدت حكمته إلى ما وراء ساحة العلوم الطبية، إذ عرفتُ أنّه يتمتع بقابلية موسوعية "انسايكلوبيدية"، فهو متعدد المواهب بعلومه المتنوعة، أي أنّه ليس حكيماً في الطب وحسب، بل يحظى بحكمة نادرة في مجالاتٍ هي غير محل اختصاصه ((وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)). لقد برعَ الطبيب الحكيم في الإدارة وفي ابتكار الأفكار الجديدة وتنظيمها، كما أظهرَ مهارةً مؤثرة في أسلوبه الأخّاذ، أثناء إلقائه محاضرةً أو مشاركته في ندوة. وكلُّ كلام يصدرُ عنه يحوطُه تنظيم مقاصد الفكرة، إحاطة السوار بالمعصم، ثم أنّه يُجدّدُ فعالية استجابة مستمعيه، بلغة السهل الممتنع، شديدة التأثير، زدْ على ذلك أنّك لا تجد له كلاماً جادّاً راقياً خلْواً من طرفة أو "نكتة شعبية الوقع" تضفي على اللقاءات متعةً تشد، بلْ "تُغوي" سامعيهِ بالمتابعة!.

في عراق ما قبل الاحتلال 2003 كان "حكيمنا" شاغل الناس بعطائه الطبي، وبحضوره العلمي والثقافي في المجالس وفي المنتديات الأدبية البغدادية، وأيضاً في اللقاءات التلفازية التي تُجرى معه، فضلاً عن تجليّاته العلمية في محاضراته بمدرّجاتِ كثير من الجامعات. ولي في كل ذلك "شهود إثبات" كتبوا عنه، ومن أبرزهم: الأستاذ الدكتور حسين علي محفوظ، الدكتور حارث عبد الحميد، الدكتور حميد مجيد هدّو، الأستاذ الموسوعي حميد المطبعي، الدكتور أديب الفكيكي، الدكتور حسين سرمك، الدكتور كمال مظهر، الدكتور مازن عبد الحميد، المؤرخ محمد عيسى الخاقاني، الدكتور عبد الأمير الأعسم، الدكتور مازن جعفر خصباك، الدكتور محمود حياوي التكريتي، المؤرخ عباس علي، الباحث الكتبي محمد رضا القاموسي، الدكتور عبد الإله الخشاب، وغيرهم كثيرون، رحم الله المتوفين منهم، وأسبغ على الأحياء نِعمَ الصحة والسلامة والعمر المديد.

وفي عام 2004 عندما تعرّض العديد من أساتذة الجامعات الى حملات اغتيالٍ أو اختطاف، كان من بين المختطفين الأخ الأستاذ عبد الهادي الخليلي، وكنتُ حينئذٍ في موقع المسؤولية، ومع أنّ عيوننا كانت "بصيرة"، إلا أنّ أيدينا -كما يُقال- كانت "قصيرة"، فما الذي كان في مقدورنا عملهُ حيالَ عصاباتٍ إجرامية ومنظمات إرهابية كانت في واقع سطوتها، أقوى من أجهزةٍ الحكومة حديثة التكوين!.

وبعد ما تمخّضت عنه تلك التجربة المُرّة، أعني جريمة الاختطاف، اضطر الأستاذ الدكتور عبد الهادي إلى مغادرة البلد، فخسره مرضاه، وطلبتُه، فضلاً عن زملائه. وبعد عام تقريباً التحق بوظيفته "مستشاراً ثقافياً" في واشنطن، عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية.

لم يكن الدكتور عبد الهادي مستشاراً اعتيادياً وحسب، فقد حوّل دائرته إلى خلية نحلٍ، بنشاطه اليومي من دون كللٍ أو ملل. وعُرفَ بطرح أفكارٍ لم يسبقه إليها أحدٌ قبله، فاستطاع أن يعقد مؤتمراً بين رؤساء مائة من كبريات الجامعات الأمريكية وعدد من نظرائهم العراقيين.

وأسّس منظمة "معاً من أجل العراق" "توفيق" Together for Iraq، حيث استطاع من خلالها تجميع الكفاءات العراقية المهاجرة إلى أمريكا، وبمختلف الاختصاصات العلمية وربطها بنظرائها من الكفاءات المستمرة بالعمل داخل العراق. كلُّ ذلك من أجل تعليمٍ علمي مباشر، وقد تحققت نتائج فردية مبهرة، إلا أنّ ما هو شائع من أمراض الإدارة في العراق بشكل عام، ولاسيّما إخفاقها في متابعة كثير من الاتفاقيات والمعاهدات، أسفر عن تضييع جهود، واغتيالِ فرصٍ كانت فائدتها أكيدة لحياة سائر العراقيين ومستقبلهم في بلدٍ صارَ فقط "معروف الكفاءة" في إحراقِ ذاته، إنْ صحّت العبارة!.

كما ألقى الدكتور الخليلي محاضراتٍ في عدد من الجامعات الأمريكية، كنتُ حضرتُ بعضها في ولاية ماسجيوست، ولعلّ من أبرزها محاضرته في جامعة هارفرد. وله نشاطات أخرى تحدث عنها في كتابه السابق.

أما بعد، فأقول عن هذا الكتاب:

لم أفاجأ بعد قراءته، بالقابلية التوثيقية التي رافقت حياة الأستاذ الدكتور عبد الهادي منذ نعومة أظفاره، فقد سبق أن خصني بقراءة مسودة الجزء الأول من كتابه المعنون (رحلتي في الطب والحياة: سيرة حياة وذكريات طبيب من وادي الرافدين)، وفيه اكتشفت أنه يحتفظ بذاكرة قلَّ نظيرها، سواء ما قبل الالتحاق بالدراسة الابتدائية أو خلالها. فهو يتذكر أسماء الكثيرين من زملائه وعوائلهم، فضلاً عن المعلمين الذين تتلمذ على أيديهم، راوياً مواقف ظريفة واستثنائية عن بعضهم. ولم ينسَ بحسّه الإنساني الجميل أولئك العاملين في المدرسة، كالفراشين وغيرهم.

فضلاً عما تقدم، فقد يفاجئُ الدكتور الخليلي محدِّثه عبر الهاتف بمعلوماتٍ ومواقفَ وصورٍ، كانت قد غابت عمّن يستمعُ إليه، وهذا ما حدث معي شخصياً مرّاتٍ ومرات.

وبرغم ما أنا عليه من معرفة بملَكةِ الدكتور الخليلي التوثيقية التي تفوَّق فيها على كثير من المؤرخين، ومنهم كاتب هذه السطور، فقد انبهرت –وأنا أطالع كتابه هذا- باحتفاظ الخليلي بقصاصات صحفٍ كُتبت عنه أو كَتب فيها، ومنها تلك التي نقلت مشاركته في مؤتمر علمي، أو عرضت حالة طبية فريدة، فضلاً عن تلك التي تناولت أحوال الطب في العراق زمن الحصار 1990-2003.

أقول: رغم أنّ الكتاب يتابع نشاطات مؤلفه، إلا أنه يؤرخ لمواضيع مختلفة متنوعة، علمية، طبية، ثقافية، اجتماعية وسياسية ولفترات زمنية من تاريخ العراق المعاصر. لذا أدعوكم إلى رحلة ممتعة مع الكتاب وجمالاتِ مؤلفه الأستاذ الدكتور عبد الهادي الخليلي، سليل عائلة آل الخليلي، ثَقَفيةِ الأرومة، كوفيةِ المنشأ، عراقيةِ الانتماء، إنسانية العطاء.





Tahir Albakaa
Historian
bottom of page