top of page

العراق.."أقاليم طائفية" أم "فدرالية قومية"؟! طاهر البكاء

كتبت في يوم 18 تشرين الثاني 2020 تغريدتين على الفيسبوك قلت في اولاهما "أصبح النظام الفدرالي في العراق حقيقة ثابتة راسخة لا مفر منها، لذا أقترح إنشاء إقليم عربي ليقابل الإقليم الكردي وبذا تحل كثير من مشاكله العالقة الآن بين المركز و اقليم كردستان والعراق بشكل عام" وفي الثانية قلت: "إنشاء إقليم عربي في العراق مقابل الإقليم الكردي يجهض مخططات محلية وإقليمية لفدرلة العراق طائفياً، وسيكون الإقليم العربي ضمانة كافية لإخراج العراق من محنه الحالية".


أثارت التغريدتان عاصفة من الرفض، وأيضاً الكثير من الترحيب. وحيال كل ذلك لم أستطع الرد على كل الآراء والملاحظات، لذا فضلت أن أكتب هذه المقالة المركزة: أفرزت العملية السياسية التي أوجدها الإحتلال الأمريكي، بعد سنة 2003 واقعاً جديداً لم يكن مألوفاً من قبل ، بطغيان مفردات أبرزها "الفدرالية" و"المكوّنات"، اللّتين نص عليهما دستور 2005. كان الكرد يتمتعون بحكم ذاتي منذ 1970، وأصبحوا منفصلين عن الحكم المركزي في بغداد "شبه مستقلين" ، وبدعم دولي منذ 1991 ، وفي 2003 بات اقليمهم حقيقة واقعة مُقَرّةً دستورياً ، مع آمال بالتمدد جغرافياً في مناطق تقع إدارياً ضمن محافظات الموصل وكركوك وصلاح الدين وديالى وربما الكوت ايضاً، والتي سُمّيتْ "المناطق المُتنازَع عليها". وفق المادة 140 من دستور 2005.وبقي عرب العراق منقسمين سياسياً، يتناحرون طائفياً، حتى اشتعلت بينهم "حرب قذرة" في أثناء سنوات 2006 – 2008. التي قتل فيها الألوف وهُجّر الملايين، ودُمّرت بيوتٌ وصوامع، وهُدرتْ حقوق، وظُلمَ ناسٌ كثيرون، فيما ربحتْ قلّة من تجّار الحروب، و"أسياد الإرهاب" وميليشياويّي العنف المتسلّل إلى العراق عبر حدوده كلها، أو المتشكّل في الداخل من ضعاف النفوس، والجهلة!.


في تلك السنوات العجاف المؤسفة، تصاعد "النَفَسُ الطائفي" ثمّ "الفرز الطائفي" حتى أصبح الجار لا يأمن جاره فلا يكتفي بأنْ يهجره، بل يقتله للاستيلاء على داره أو محله، وشيئاً فشيئاً، أضحى "الفرز الطائفي" بلون الدم، وبطعم العلقم، وبرائحة العفن، حتى تصاعدت الأصوات مطالبةً بـ"إقليم سني" بعد أن كان المزاج العام لسكان تلك المناطق يرفض الفدرالية فكرةً ، وفي الظروف المستجدة، أصبح يطالب بها جهاراً نهاراً ،غذّاها دعم خارجي، مثل مشروع السناتور جو بايدن 2006 "1" ، وأيضاً بدعم إقليمي تركي، خليجي، ولا نستبعد أنْ تكون هناك أصابع إسرائيلية تعزف على هذا الوتر اللئيم!.


ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن الدعوة إلى "إقليم شيعي" يضم تسعَ محافظات سبقت الدعوة إلى "إقليم سنّي". وكان ذلك من متبنّيات المجلس الاسلامي الاعلى بقيادة عبد العزيز الحكيم. إلا أنها واجهت رفضاً شعبياً واسعاً مما أجبر المجلس الاسلامي على التخلي عنها مؤقتاً ، فيما لاقت فكرة إقليم البصرة التي تبناها وروّج لها القاضي وائل عبد اللطيف المصير نفسه. الفدرلة توحيد أم تقسيم: تتعدد أشكال انظمة الحكم في العالم ، والنظام الفدرالي من أبرزها وساهم هذا النظام بوحدة أوطان وأمم من أبرزها ، الولايات المتحدة الأمريكية ، كندا ، المملكة المتحدة ، الهند ، استراليا وغيرها ، وعربياً الامارات العربية المتحدة. وهذه الدول قوية بنظامها الفدرالي، ولولاه لتقسمت الى عدة دول متحاربة او متخاصمة أو متنافسة في احسن الاحوال.


في ثقافتنا العربية ترسخ مفهوم الحكم المركزي الصارم منذ مئات السنين، بل ومنذ صدرالإسلام حيث جمع الخلفاءالراشدون السلطات الثلاث بأيديهم ، واستمر هذا المفهوم في الدول "الاسلامية" اللاحقة، ثم أضافوا اليه التوريث العائلي للسلطة، بعيداً جداً عن أي شكل من أشكال مفهوم "الشورى" . وعلى المستوى الاجتماعي فان شيخ القبيلة أو العشيرة يتمتع بسلطات مطلقة ، مثل الخليفة في الدول "الإسلامية". وفي إطار عملية "التخلُّق الاجتماعي" ازدرع "العقل الجمعي" سلوكاً غريباً "يقدّس" الفرد، أي الحاكم، والزعيم، ورجل الدين، ورئيس العشيرة، وحتى رئيس الحزب، وأحياناً "رئيس العصابة"!!.


وفي زماننا الحاضر، لم تسلم الأحزاب "الثورية" والتي تدعي الديمقراطية من هذا المرض، فمارسته تارة باسم "دكتاتورية البروليتاريا" وأخرى باسم "المشروعية الثورية" أو "تمثيل الجماهير"، أو غيرها. وبهذه المفاهيم والممارسات نشأنا وأجيالنا اللاحقة والسابقة على تفضيل الحكم المركزي الشمولي، نعبده ولا نحبذ أن نخرج عنه ، حتى صار حالنا تماماً، كحال العبيد إذا طردهم سيّد عليهم، بحثوا عن سيد آخر!. فمن الطبيعي والحالة هذه أن تلاقي طروحاتي بشأن فكرة إنشاء اقليم عربي رفضاً من عديد من الاصدقاء ، وجدت أنّ أغلبهم نشأ في زمن يسود فيه الحكم المركزي الشمولي. والحقّ أقول أنني لم أنزعج من ذلك بقدر إنزعاجي من إتهامي بأنني أسعى الى تفتيت العراق!. أنواع الاقاليم المطروحة والممكنة في العراق: تتنوع الأقاليم في تكوينها ، وفي الحالة العراقية يمكن تطبيق عدة صيغ ، مثل الأقلمة القومية العرب ، الكرد ، أو مناطقية أي "جغرافية" أما أسوأ أنواع الأقلمة، فهي التي تعتمدُ "المذهبية" أو بصريح العبارة "الطائفية الدينية" لإنشاء إقليمين أحدهما يكون "سنّياً" والآخر "شيعياً" إلى جانب الإقليم الكردي. وهو ما ليس له مثيل لا في الواقع العربي المتردّي الحالي، ولا في التاريخ العربي-الإسلامي. وحتى ما عُرف بـ"دول الطوائف" في بلاد الأندلس غبّ ضعف الدولة العربية هناك وتحلّلها لم تكنْ تلك التسمية تتعلق بالتمذهب الديني!.


لعل سائل يقول: لماذا لا نؤسس "أقاليم مناطقية" ، مثل إقليم الجنوب (بصرة ، ناصرية، عماره) وأقليم الوسط (كربلاء ، نجف ، الحلة، الديوانية) ، والاقليم الشرقي (كوت ، ديالى، كركوك) والاقليم الغربي (رمادي ، صلاح الدين ، الموصل). أو بما يشبه ذلك. وهنا لابد من التوضيح ، أن هذا يصب في خانة تفتيت المُفتّت ، وسيخّلف مشاكل إدارية لا حصر لها ، إضافة الى تضخم هائل في المناصب العليا ، كالرؤساء ، الوزراء ، المديرين العامّين وغيرهم. كما سيربك عمل الحكومة المركزية فبدلاً من أن تتعامل مع إقليمين ، ستضطر إلى التعامل مع خمسة أقاليم. وفي إطار ذلك يبرز سؤال: لماذا يتم التعامل مع الكرد على أساس قومي بينما يتعامل العرب مع أنفسهم على أساس مذهبي؟ طبعاً هذا ما جاء به المحتل وقبلته كل الأحزاب الإسلامية المشاركة في مجلس الحكم. والسبب الحقيقي لذلك، هو أنها نظرياً لا تؤمن بـ"الدولة الوطنية"، أو كما يعزو ذلك بعضهم إلى "الغباء السياسي"، لإنّ الأحزاب الإسلامية تندفع بـ"غباء فعلي" مشتبك التأثير، فهي "طائفية" من جهة، و"أممية" من جهة أخرى، أي أنها تشتغل على نقيضين في آن واحد!. فلو تم إعتماد الأقاليم المذهبية في المناطق العربية فستنشأ مشاكل لا عدَّ او حصر لها. من أبرزها ، قضاء سامراء ذو الأغلبية السنية والذي يضم ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، قضاء تلعفر في الموصل ذو الأغلبية الشيعية ، وطوز- خورماتو، ذوالاغلبية التركمانية-الشيعية الذي كان تابعاً الى محافظة كركوك ونقل الى محافظة صلاح الدين. هذا على مستوى الأقضية ، وربما تتمدد العدوى الطائفية الى العاصمة الاتحادية بغداد ، فتحصل مشكلة تبعية قضاء الكاظمية وقضاء الاعظمية ، أو قضاء الكرخ وقضاء الرصافة ، وابو غريب وغيرها. وربما تنحدر جنوباً الى قضاء الزبير. واذا ما حدث ذلك ، لا سمح الله ، فقد تتقلص الدائرة الى المحلات والشوارع مثل تبعية مرقد الامام الشيخ عبد القادر الكيلاني وغيره كثير، فإذا تورّط العراقيون بهذا المسار العسير، فلا شك في أنه سيأخذهم الى تفكك ملايين العوائل ، والى سفك أنهار من الدماء وإزهاق آلاف الأرواح البريئة. مما تقدم فان المناداة والمطالبة بتقسيم العراق الى أقاليم طائفية ، اذا حسُنت النوايا عند المنادين بها، فإنهم إما أغبياء لا يدركون مخاطر ما ينادون به، أو أنهم يبحثون عن "إمارة ولو على حجارة" كما تقول العرب.


أما الحال الأكثر سوءاً، فهي أنهم ينفذون إرادات خارجية ليست مطامع "الإرادة الاسرائيلية"، ببعيدة عنها!. وفي هذه الحال ستكون الحكومة الاتحادية في بغداد ضعيفة وإقليم كردستان العراق قد إستقر قومياً، لكنّه سيتعرّض إلى تهديدات من نوع آخر تفرضها "مطامع الأقلمة" وهذا ما لا تُحمدُ عقباه، فيما سيستمر الإقليم الكردي بالتعامل كـ"دولة قومية" مع إقطاعيات "طائفية"، فيفرض بذلك إرادته حتى على الحكومة المركزية التي ستكون أضعف بكثير مما هي عليه الآن .وليس من المستبعد حتى في الإقليم الكردي ذاته أنْ يعود التناحر بين السليمانية وأربيل ،كما كان قبل 2003. ولمواجهة هذه الكارثة المرعبة التي يعدّها البعض متصورة في الأذهان وليس لها على أرض الواقع فرص النجاح، أقول: إنّ السياسي الجيد والحاذق هو مَن يتحسّب الى ما هو متصور أو يمكن تصوره.


وبما أن موضوع الاقليم "السني" أصبح له مَن ينادي به محلياً وله مَن يناصره ويدعمه إقليمياً، وهناك بالتأكيد من يترقّب تأييد الرئيس جو بايدن له!. أقول: مادامت إقامة نظام مركزي قوي -في ظل الاوضاع القائمة- شبه مستحيلة في المدى المنظور، فلابد من إستباق وطرح البديل ، الذي يحافظ على وحدة العراق الفدرالي. لماذا ألإقليم العربي؟ إن إقامة إقليم عربي من المحافظات جميعها باستثناء المحافظات الثلاث التي يتكون منها إقليم كردستان العراق سيقضي على أي حلم باقامة أقاليم على أسس مذهبية، يمكن أن تتحوّل الى مفرخة لأشباح الحرب الطائفية!. هذا لعمري هدف نبيل وانجازعظيم. كما انه سيحافظ على العراق موحداً، وسيكون قوة مسيطرة ومهيمنة تفرض إرادتها على الحكومة المركزية، بدلاً مما يفعله إقليم كردستان حالياً الذي لا يلتزم بالدستور وبأي إتفاق مع الحكومة المركزية. وسيقلص سطوة الاحزاب الدينية تدريجياً. كما أنّ مدن الإقليم العربي ستنهض إقتصادياً بشكل سريع بفضل ما تتمتع به أرضه من خيرات لا حصر لها.


وإذا ما ساد المفهوم الديمقراطي، وتعمّق فكراً وممارسة لدى الجيل الجديد، الذي ولد بعد 2003، والذي فاجأ الجميع بوعيه الوطني، رغم ما سُلط عليه من إدوات تجهيل وتخدير، فإن عراقاً جديداً سينهض ويفرض إرادته. ويكون محل احترام عند الجار القريب والصديق، ومصدر رهبة لدى العدوّ، أكانَ قريباً أو بعيدا.

Tahir Albakaa
Historian
bottom of page