top of page

قبل أن يقع المحذورتقسيم فلسطين ومخطط تقسيم العراق تكرار الأهداف والأساليب، طاهر البكاء


يرى ثقاة المؤرخين: أنّ "من لم يستفد من تجارب التاريخ تلاحقه لعنة تكرارها"، وها نحن امام مشهد تكرّر في امة العرب لمرّات ومرات، من دون أنْ يستوعب أحدٌ دروسه. ولعل ضياع فلسطين وتقسيمها واحد من أقسى الدروس، بعد تقسيم أمة العرب نتيجة لتسويات الحرب العالمية الأولى. أما أبناء الأمة وحكامها فلم يعوا بعد ذلك الدرس، لذا لاحقتهم "لعنة تكرار التجارب" الى العراق، وربما لا تتوقف عنده.

إن المراقب لما يجري الان في العراق يرى انه تكرار لما جرى في فلسطين في النصف الأول من القرن الماضي، إذ وُضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وكانت الحكومة البريطانية قد قطعت سنة 1917 وعداً بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، والشهير بـ "وعد بلفور".

أيامئذٍ تضافرت جهود سلطات الانتداب البريطاني في فلسطين والمنظمات الصهيونية لاستقدام المهاجرين اليهود وتوطينهم في فلسطين حتى غدوا غالبية في بعض المدن وامتلكوا الاراضي وأقاموا المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية. ولم يكن لدى عرب فلسطين ما يشابه تلك المؤسسات.

كان الصهاينة يعملون ضمن خطة لفرض امر واقع، ولم يكن لدى العرب عامة وعرب فلسطين خاصة اي خطة مقابلة، وكل ما وقع واطلق عليه "ثورات" لم يكن إلا ردات فعل انية سرعان ما خبت .

وعندما وقع المحذور وأصبح اليهود منظمين وقادرين على الدفاع عن انفسهم اعلنت بريطانيا عزمها الانسحاب من فلسطين، وحولت الملف الى الامم المتحدة التي انشئت بعد الحرب العالمية الثانية.

ونتيجة للأمر الواقع الذي اوجده الانتداب وبالضغوط وتأثير الدول الكبرى أصدرت الامم المتحدة سنة 1947 قرارها بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية، مع تدويل مدينة القدس* (أنظر الخارطة)، ولم يطبق قرار التقسيم الذي رفضة الفلسطينيون والعرب، مع أنّه حالة متقدمة جداً على ما آلت إليه الحال بعد اتفاقات كامب ديفيد ومؤتمر أوسلو، التي تسالمت أطرافها على منح الفلسطنيين سلطة قميئة بالشروط المفروضة عليها، وبحجم التقسيم الجغرافي الذي أخسر الفلسطينيين معظم أراضيهم التي كان قرار التقسيم لسنة 1947 قد منحها لهم.

إن مشهد فلسطين يتكرر الان في العراق وبالأسلوب نفسه الى حد ما، مع بعض التغيير في قواعد اللعبة واللاعبين، ففي فلسطين تم استقدام المهاجرين اليهود الذين استولوا على الأراضي الفلسطينية بمختلف الوسائل، أما في العراق فإن المحتل يسعى بكل الوسائل الى تجزئة اهل العراق من خلال تحطيم الهوية الوطنية العراقية، ودفع الناس للإنكفاء الى هويات اضيق قومية أو مذهبية تعاونه بذلك الأحزاب والقوى الناشطة الآن على الساحة العراقية من حيث يعلم بعضها او لا يعلم.

ولإن جغرافية العراق بالأساس تنقسم الى أغلبيات وأقليات من حيث التصنيف القومي والمذهبي فلا يحتاج المحتل إلا الى تكريس هذا الانقسام وتنظيمه وتأطيره، تحت عناوين ومسمّيات في واقعها حق يراد به باطل، لذا انصبت الجهود لاختيار النظام الفدرالي شكلا للدولة الجديدة كمرحلة اولى.

لا بأس بالفدرالية فهي نظام حكم وحد الكثير من الأمم والشعوب، لكن الخطورة تكمن في شكل الفدرالية فإذا ما كانت ادارية وحدت الوطن وإذا بنيت على اسس قومية ومذهبية فإنها ستضع العراق على طريق التقسيم.

إدركت القوى الفاعلة في العراق ان البلد سائر نحو التقسيم، لذا تركزت جهودها على الاستحواذ على مساحات أوسع الأمر الذي يتطلب اجراء عمليات جراحية قسرية في المناطق المختلطة مثل بغداد، كركوك، الموصل، ديالى، صلاح الدين، واجزاء من بابل، وكذا في البصرة.

ولإن التقسيم لم يكن في بال العراقيين وخاطرهم، لذا كان لابد من تحفيز الأحقاد وإثارتها وبعثها من قبورها كي تساهم في "تعقيد الحالة السياسية وزعزعة الاستقرار والوضع الأمني" بهدف إجبار العراقيين على التفكير الجدّي بالتقسيم والقبول به "صيغة للخلاص" مع أنّه سيتحوّل مع الزمن إلى "وسيلة لتغييب الوطن برمته"، فجاءت العمليات الارهابية الواسعة والتي تقتل دون رحمة، ثم نظمت عمليات التهجير القسري تحت التهديد والقتل، وتمت بالفعل إجراءات واسعة النطاق وقاسية جداً للتطهير العرقي والطائفي في مناطق بكاملها، ضمن سباق سريع وفاحش في عنف تطبيقاته للقضاء على حالة "تعدد ألوان الطيف" في بيئة المدينة الواحد، وتحويلها إلى "طيف واحد" شيعي أو سني أو كردي.

وإذا ما اخذنا اقليم كردستان كحالة ونموذج فإنه منذ عام 1991 تمتع باستقلال شبه كامل، وبنى خلال العقد الماضي مؤسساته المختلفة الاقتصادية والسياسية ورفع علمه الخاص، وله مناهجه التدريسية التي قطعت صلة الجيل الجديد بالعراق، ولو سمحت الظروف الأقليمية الدولية لاستقل هذا الأقليم منذ زمن، وما تمسك القيادات الكردية بالهوية العراقية الان الا على سبيل الاضطرار لا الاختيار لانها تحميهم من دول الجوار المعادية لهم والمتربصة بطموحاتهم.

أما إذا تم انشاء اقليم في الجنوب والوسط كما يطالب بذلك المجلس الأعلى للثورة الاسلامية، فهذا يعني بكل تأكيد أن عربة التقسيم وضعت على السكة، واذا ما انطلقت لن تتوقف، أو ان ايقافها يحتاج الى تضحيات جسام.

إن الارهاب المنظم الذي تمارسه القوى المختلفة والارهاب المضاد سيدفع العراقيين بشكل عام والحريصين على وحدة البلد بشكل خاص "مضطرين غير مختارين" في ظل غياب حكومة قوية قادرة على حمايتهم الى التعاطي مع الواقع والاحتماء بالطائفة وقواها، التي تفرض سيطرتها على الاقاليم وبالنتيجة القبول بطروحاتها حتى لو كانت انفصالية، وهم بذلك كمن يستجير من الرمضاء بالنار.

وهكذا يكون الاحتلال والارهاب وقوى التكفير وكثير من القوى السياسية الفاعلة على الساحة العراقية، قد ساهمت في وضع العراق في غرفة عمليات "التقطيع الطائفي والإثني" ولن يخرج منها موحدا، ومايحصل للعراق تحت الاحتلال الأميركي، كان قد حصل لفلسطين تحت الانتداب البريطاني.

لعل سائلاً يقول: إن هذا يتناقض مع الاهداف المعلنة للولايات المتحدة الاميركية ومصالحها، وهي اللاعب الاساسي في الساحة العراقية، وهذا الى حد ما امر صحيح، لكن لا يفوتنا أن نقول إن "طروحات السياسة" تأخذ دائما وضع جبل الجليد، الذي لا يرى منه الا الجزء العائم على سطح الماء، أما اغلبه بالضبط فهو غاطس تحت الماء، ولا حساب لهذا الجزء الغاطس، مثلما لا حساب للخفّي من طرحات السياسة.

وإذا ما تابعنا الخطوات التي قامت بها سلطات الاحتلال بعد 9 نيسان 2003 لأدركنا أن هناك اهدافاً اخرى غير معلنة يسعى اليها الاحتلال، فإن مبدأ "الفوضى الخلاقة" الذي تتبناه الخارجية الاميركية، يعني بكل صراحة تعريض المنطقة الى هزات عنيفة ومراقبة الهزات الارتدادية، وهذا ما بدأ بالعراق، وهو كاف لخلق هزات ارتدادية في الأقليم برمته على المديين القصير والمتوسط.

ولو كان الهدف الأميركي احتلال العراق فحسب والاحتفاظ به موحدا، لما قامت بما قامت به من اجراءات حل الجيش والشرطة وشرطة الحدود، وعدم تشكيل حكومة عراقية تملآ الفراغ، وفتحت الحدود لمن هب ودب لدخول البلد، دون جواز سفر او بطاقة هوية، حتى استقدمت اغلب اعدائها الى ارض الوطن ولما تركت مخازن سلاح الجيش العراقي مفتوحة الأبواب لتستولي عليها قوى الارهاب والعشائر وغيرهم، ولما منعت الجيش العراقي الجديد والشرطة من امتلاك اية وسيلة من وسائل القوة والنجاح، كالسلاح، ووسائل اتصال، وحرية الحركة.

من الغباء الاعتقاد ان كل ما جرى ويجري هو اخطاء تكتيكية، كما صرحت وزيرة الخارجية الأميركية وسواها من المسؤولين الأميركان، وإنني من القائلين بأن ماحصل ليس أغلبه اخطاء، بل ان الكثير منه جزء من خطة واسعة، وهي وضع البلاد على طاولة التقسيم.

قد يقول اخر إن من غير المعقول ان تضحي اميركا بأبنائها وأموالها وسمعتها ومكانتها الدولية بهذه الطريقة وهذا فيه قدر من المعقولية، لكن السياسة هي السياسة، ورغم ان الأميركان بشكل عام قصيرو النفس إلا ان الإستراتيجيين غالبا يرسمون خططا أجلها عقود او لقرون.

إن الفشل الاميركي الظاهر على الساحة العراقية، سوف لا يؤدي الى هزيمة الولايات المتحدة او انسحابها، بل إنّ امام الادارة الأميركية خطوات لاحقة تؤدي الى الخطوة الاخيرة، التي ستكون احالة الملف العراقي الى الامم المتحدة، وأميركا هي اللاعب الرئيس فيها، ولان الامم المتحدة غالبا تتعامل مع الواقع القائم وليس مع حقائق تاريخية واخلاقية لذا ستجد في التقسيم حلا معقولا للأزمة العراقية من أجل حقن الدماء وحل المشكلة وبهذا يحقق الإستراتيجيون الأميركان هدفهم غير المعلن.

إن الخطوة اعلاه تشبه بشكل يكاد يكون كاملا ما قامت به بريطانيا في فلسطين حين اعلنت عزمها على الانسحاب واحالت القضية الى الامم المتحدة التي اصدرت قرار التقسيم. وهكذا تشابهت الصور بين الحالتين الفلسطينية والعراقية.

تبدو في الافق الان ملامح تراجع اميركي وذلك بعد ان القت ايران بثقلها في العراق، واتخذته خطا دفاعيا اماميا لحماية نفسها، والمضي ببرنامجها النووي، وهذا قد يدفع الولايات المتحدة تكتيكيا الى التمسك بالوحدة العراقية واعادة ترتيب البيت العراقي لمواجهة الخطر الايراني.

لقد ظهرت ملامح ذلك في تعبئة المحيط الاقليمي ضد ايران بذريعة الخطر الشيعي، والمؤشرات الجادة بدأت بالضرب بقوة على كل الخارجين على القانون او الذين يستخدمون الأطر الرسمية لتحقيق مآرب حزبية او طائفية او عنصرية.

هل يعي الساسة العراقيون ان امامهم فرصة ذهبية للحفاظ على الوحدة العراقية، بأنْ يستثمروا العداء الأميركي الاسرائيلي للبرنامج النووي الأيراني ومخاوف الاقليم منه لصالح وحدة العراق؟ أم انهم سيضيعون "الفرصة" مثلما اضاعت القيادة الفلسطينية فرصتها المتاحة عام 1948؟

إن درس فلسطين اذا ما تكرر في العراق، فإننا وبلا شك سنستحق تلك اللعنة التي تلاحق من لا يستفيدون من تجارب التاريخ.


* المصدر: موقع الـ "BBC" على الإنترنيت.



Tahir Albakaa
Historian
bottom of page