top of page

فاقد الشيء لا يعطيه!


إن المراقب للمشهد السياسي العراقي خلال السنوات الثلاث المنصرمة توصل الى نتيجة تكاد تكون جازمة وهي أن بناء نظام ديمقراطي في العراق يُعدّ من أصعب الأمور واعقدها, ذلك ِلأن غالبية الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة في العراق تخلت عن القواسم المشتركة التي تجمعها مع الطيف العراقي وتلاوينه الجميلة, التي تؤسس لهوية وطنية عراقية, وبدلاً من ذلك انكفأت الى ولاءات ضعيفة قومية او دينية او مذهبية واصبح الحديث عن هذه المكونات وحقوقها وحصصها ومظلوميتها وثقلها البشري وعمقها التاريخي, برغم محدودية أفقه- أي الحديث- يعلو على حقوق المواطنة والوطن, وهذا لعمري مسار سياسي لا تحمد عواقبه.

وكل الأحزاب والحركات تدّعي أنها تريد بناء نظام ديمقراطي في العراق, يضمن حقوق المواطنين بشكل متساو ويؤمّن التداول السلمي للسلطة, لكن اغلب تلك الأحزاب والحركات يعيش تناقضاً مع ما يدعيه في الممارسة اليومية, مرتكزاً –بوعي أو بغير وعي – إلى جذور صيرورته التي تعمل بسياسة إلغاء الآخر وبكل الطرق والوسائل, فالذي يمجد الارهاب ولا يدينه بحجة مقاومة الأحتلال انما هو يستقوي بالآرهاب ويخشى القوى الظلامية التكفيرية الارهابية رغم ما الحقته بالعراقيين العزل من قتل على الهوية, ومثل هذا لا يمكنه ان يرفع لواء الوحدة الوطنية.

كما ان الذي يمارس القتل والاغتيالات والتعذيب هو الآخر لا يصلح ان يكون راعيا لمشروع وطني, وان أصحاب الاتجاهات القومية والدينية والمذهبية لا يستطيعون الادعاء بانهم اصحاب مشروع وطني يصلح للطيف العراقي وتلاوينه, لآنهم بكل بساطة اختاروا منهجا فكريا, يمثل جزءا من الطيف العراقي ويقلل من شأن بقية ألوان ذلك الطيف.

لقد ظهر جليا في الحملات الانتخابية ( كانون الأول 2005) أن القوى الفاعلة في العراق لم تستفد من دروس التاريخ, وهي لهذا السبب مارست ابشع انواع الكذب وتشويه الآخر لإسقاطه, واتخذت من التضليل والتزوير والقتل و(استحمارالبشر) سبلاً عتيقة ومذمومة, من اجل الاستحواذ على اكبر كم من الاصوات حتى لو عصفت تلك الممارسات بالديمقراطية واساءت الى مبادئها واستهانت بعقائد الناس ومثلهم وأخلاقياتهم الإجتماعية الموروثة.

وأثبتت لنا الممارسة الانتخابية ان الديمقراطية تلك يجرى ارساؤها في العراق بلا ضمانات حقيقية كما هو عليه حال الديمقراطيات الاخرى البعيدة والقريبة, وان ديمقراطية البندقية والارهاب والتضليل والغاء الاخر, إنما هي تمظهر حقيقي لدكتاتورية بديلة عن دكتاتورية صدام, تسعى إلى تخذيل إرادة المواطنين, أو تشويه مضامين فهمهم للديمقراطية التي يحلمون بها سبيلاً لتسيير شؤون بلدهم. إن الحركات والأحزاب التي تمارس هذا النمط من الخداع السياسي, هي أحزاب مصابة بداء الصدامية التي تعتقد أنها ضدها, وتمارس تفاصيل أفعالها تماماً كما كانت تُمارس في عهد الطاغية, ولعل الناس في العراق يستطيعون استعادة مثل هذه الصور البشعة التي تعامل بها صدام مع الشيوعيين والأكراد وغيرهم أيام ما كان يسمى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في سبعينات القرن الماضي!


واذا دققنا في الحياة الديمقراطية لجميع الحركات والاحزاب العاملة الآن على الساحة العراقية نجدها بعيدة كل البعد عن الحياة الديمقراطية, إذ لم تجر فيها انتخابات داخلية أومؤتمرات دورية, وأغلب قيادتها تاريخية ازلية, أو تمارس الأبوية أو الروحية او العائلية او المادية بالتسلط على قواعدها. إن جل الأحزاب العراقية الحالية ولا أقول كلها وقفٌ –منذ تأسيسه- على زعماء سياسيين يستملكونها كما يستملكون اقطاعياتهم وعقاراتهم وأرصدتهم في البنوك. إنهم في الحقيقة يتكلمون عن الديمقراطية ويسايرون تيارها بدافع استخدامها وسيلة من وسائل السيطرة على السلطة. ولذا فهم ببساطة عاجزون عن تعليم الشعب ما يجهلونه هم أصلاً.

فإذا كانت القوى الفاعلة على الساحة العراقية بهذا الوصف, فهل نتوقع منها ان تؤسس لديمقراطية تحافظ على الهوية الوطنية العراقية وتعتمد صناديق الأنتخابات وتحتكم اليها وتؤمن بنتائجها ويكون الشعب الضامن الحقيقي للديمقراطية. كيف لنا ان نطلب من احزاب وحركات غير ديمقراطية ان تبني لنا وطنا ديمقراطيا؟ ألم يقل الحكماء: ان فاقد الشيء لا يعطيه؟!





Tahir Albakaa
Historian
bottom of page