الدكتور طاهر البكاء .. وخير الناس مَن نفع الناس ، بقلم الأستاذ الدكتور كمال مظهر أحمد، 2000م
الدكتور طاهر البكاء ..
وخير الناس مَن نفع الناس
بقلم الأستاذ الدكتور كمال مظهر أحمد
2000م
بين الحين والآخر يطلب مني الصديق الصحفي الأستاذ مؤيد عبد القادر أن أسجّل خواطري عن عدد من الكتاب و الأدباء و الأساتذة الأفاضل الذين يتربعون على عرش الوفاء للوطن ، و يدخلون في عُداد الطيبين من الناس ، ليستحقوا بذلك كل تقدير و تبجيل. و بما أن مسلسل (هؤلاء في مرايا هؤلاء) لن ينتهي ، أطال الله في عمر صاحبه المبدع ، اقترحت أن يكون مطافي مع أحد أقرب الناس إلى نفسي لأترك الميدان بعد ذلك لغيري ممن يجيدون صنعة رسم الآخرين بصورة أفضل مني.
عرفته قبل عقدين من الزمن أنموذجاً للتواضع في حين كان موقعه يسمح له أن يظهر عليه غرور الشباب فكان في ذلك استثناءً محموداً لقاعدة تكاد تكون عامة تتجاوز الزمان و المكان عادة، بل أن ذلك النوع من الغرور يكاد يغدو مرضاً مزمناً في العديد من أصقاع شرقنا المبتلى الذي هو اليوم أحوج ما يكون إلى ناقد لاذع، ساخر من طينة (ايرازموس الرونتردامي) في رائعته التي اختار لها مثل هذا العنوان المعبر عن مضمونها البليغ (في مديح الغباوة) أو (تجميد السفاهة).
وفي قاعدة الدرس كنت ألمس فيه خشوعاً غير متصنع، موروثاً من صوامع الفكر النجفية التي أبهرتني عندما رأيت واحدة منها في الصحن الشريف قبل حوالي عقد من الزمن، و كان طلق اللسان ، موزوناً في إجاباته التي كانت تفتقر، مع ذلك ، إلى خزين فكري أفضل وأغنى حالَ دون تكوينه لدى انشغاله المتحمس بأمور كانت تبعده ، رغماً عنه ، عن مظانه ، ومن حينه بدأت أرنو إلى الذي يكرّس فيه هذا الشاب المتوقد نفسه للعلم ، إذ كنت ألمس فيه كل ما يؤهله لينوء بأعبائه.
و بقدر اقترابه من العلم كنا نقترب من بعضنا في حين لم يدعني لحضور مناقشته لرسالة الماجستيرالتي كانت خطوة جيدة على الدرب، أصبحت متابعاً لاطروحته للدكتوراه و رئيساً للجنة مناقشتها ، وكان قد قطع شوطاً مرموقاً من الاتجاه الصحيح ، وغالباً ما أستشهد "باطروحته" - في أفضل أروقة العلم ، بما فيها جامعة البكر- ، بوثائقها النادرة ، و استنتاجاتها الصائبة. وعندما بدأ التدريس فرحت بحب طلابه له ، و ثقتهم به ، فهم أول مَن يحق لهم أن يقوّموا أساتذتهم كما أعتقد. وزاد فرحي عندما استمعت أكثر من مرة بمناقشاته لعدد من رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه.
و إذا كان ، و فعلاً كان وسيكون (خير الناس مَن نفع الناس) فإن لصاحبي السبق وحظاً موفوراً في هذا المضمار الشريف بكل جدارة، فما أكثر أولئك الذين ينعمون بثمار طيبته ، و خيرات عقله الراجح ، إذ ما أن تلمس يداك مصباحه السحري حتى تسمع صوته الواثق (شبيك ، لبيك) . و هو ساحر في علاقته مع الغير ، لذا لم أرَ بين كبير معارفه و صغيرهم مَن يرد له طلباً إن كان الأمر في مقدوره ، وهم أكثر من أن يُعدّوا و يُحْصوا.
وقيل (شبيه الشيء منجذب إليه) ، كما قيل أيضاً (قل لي مَن هم أصدقاؤك أقل لك مَن أنت) فاصدقاؤه الذين غدوا أصدقائي ، و كذلك اقرباؤه الذين غدوا أيضاً من اقربائي ، أكاد أجزم أنهم من طينته الطيبة. وأصدقائي و اقربائي كلهم يحبونه ، فهذا المفكر مسعود محمد يقضي معه الساعات ، و يسأل عنه بتلهف ، وذلك المخضرم الطيب فؤاد عارف وضعه منذ سنوات في مقام أعز أولاده ، و يأبى المؤرخ الزاهد الروزبياني إلا أن يناديه: (بساماً) بحرارة نابعة من القلب ، و هو ضيف عزيز على مائدة الشاعر الروائي خسرو الجاف العامرة ، و يود أخي فيصل فهمي سعيد أن يلتقيه ، ويتناقش معه باستمرار ، وعمي طاهر الحيدري، بدا سعيداً، بعد أنْ ظهر لديه ولد ثان بعد انتظار طال ثلاثين عاماً.
ذلكم هو تلميذي سابقاً ، و أخي وصديقي دائماً ، الدكتور طاهر البكاء الذي مَنَّ الله عليه بأجمل الصفات، و أروع الخصال ، و ما قلته أقل ما يمكن قوله فيه ، فهو دوماً يجعلني أزداد ثقة بأنَّ خير الناس لن ينتهي ، مع عذري له لأني لم ألبِّ طلبه، وإصراره عليَّ أن لا أكون أنا المتحدث عنه ، و هذا ما يُسجّل عليه لا له في نظري ، فقد أراد أن يحرمني من متعة رواية قصة واقعية قصيرة أعتز بها.
Comments